فصل: تفسير الآيات (35- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (26- 28):

{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}
{قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أي بالزمان الذي لبثوا فيه. {لَهُ غَيْبُ السموات والأرض} أي ما غاب فيهما وخفيَ من أحوال أهلِهما، واللامُ للاختصاص العلميِّ دون التكوينيِّ فإنه غيرُ مختص بالغيب {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} دلّ بصيغة التعجبِ على أن شأنَ علمِه سبحانه بالمبصَرات والمسموعاتِ خارجٌ عما عليه إدراكُ المدرِكين لا يحجُبه شيءٌ ولا يحول دونه حائلٌ ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيفُ والكثيفُ والصغيرُ والكبيرُ والخفيُّ والجليُّ، والهاءُ ضميرُ الجلالة، ومحلُّه الرفعُ على الفاعلية والباء مَزيدةٌ عند سيبويهِ وكان أصله أبصَرَ أي صار ذا بَصَر، ثم نقل إلى صيغة الأمرِ للإنشاء فبرز الضميرُ لعدم لياقةِ الضيغة له أو لزيادة الباء كما في كفى به، والنصبُ على المفعولية عند الأخفشِ والفاعلُ ضميرُ المأمورِ وهو كلُّ أحد، والباءُ مزيدة إن كانت الهمزةُ للتعدية، ومتعدّية إن كانت للصيرورة، ولعل تقديمَ أمرِ إبصارِه تعالى لما أن الذي نحن بصدده من قبيل المبصَرات {مَّا لَهُم} لأهل السمواتِ والأرض {مِن دُونِهِ} تعالى {مِن وَلِىّ} يتولى أمورَهم وينصُرهم استقلالاً {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ} في قضائه أو في علم الغيب {أَحَدًا} منهم ولا يُجعل له فيه مدخلاً وهو كما ترى أبلغُ في نفي الشريكِ من أن يقال: من ولي ولا شريكٍ، وقرئ على صيغة نهي الحاضرِ على أن الخطابَ لكل أحدٍ.
ولما دل انتظامُ القرآنِ الكريم لقصة أصحابِ الكهف من حيث إنهم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المغيبات على أنه وحيٌ معجزٌ أمره عليه السلام بالمداومة على دراسته فقال: {واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ} ولا تسمَعْ لقولهم: ائتِ بقرآن غيرِ هذا أو بدِّلْه {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} لا قادرَ على تبديله وتغييره غيرُه {وَلَن تَجِدَ} أبدَ الدهر وإن بالغتَ في الطلب {مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ملجأً تعدل إليه عند إلمام مُلِمّة.
{واصبر نَفْسَكَ} احبِسها وثبِّتها مصاحِبةً {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى} أي دائبين على الدعاء في جميع الأوقاتِ، وقيل: في طرفي النهار، وقرئ: {بالغُدوة} على أن إدخال اللام عليها وهي علمٌ في الأغلب على تأويل التنكيرِ بهم، والمرادُ بهم فقراءُ المؤمنين مثلُ صُهيبٍ وعمارٍ وخبابٍ ونحوِهم رضي الله عنهم، وقيل: أصحابُ الصُّفَّة وكانوا نحو سبعِمائة رجل، قيل: إنه قال قومٌ من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نحِّ هؤلاء المواليَ الذين كأن ريحَهم ريحُ الضأن حتى نجالسَك كما قال قومُ نوحٍ عليه السلام: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} فنزلت. والتعبيرُ عنهم بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخَصلة الداعيةِ إلى إدامة الصحبة {يُرِيدُونَ} بدعائهم ذلك {وَجْهَهُ} حالٌ من المستكنِّ في يدْعون أي مريدين لرضاه تعالى وطاعته.
{وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} أي لا يجاوِزْهم نظرُك إلى غيرهم، مِن عدَاه أي جاوزه، واستعمالُه بعن لتضمينه معنى النبوِّ أو لا تصرِفْ عيناك النظرَ عنهم إلى غيرهم، من عدَوتُه عن الأمر أي صرفتُه عنه على أن المفعولَ محذوفٌ لظهوره، وقرئ: {ولا تُعْدِ عينيك} من الإعداء والتعدية، والمرادُ نهيُه عليه السلام عن الازدراء بهم لرثاثة زِيِّهم طموحاً إلى زِيّ الأغنياء {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} أي تطلب مجالسةَ الأشراف والأغنياءِ وأصحابِ الدنيا، وهي حالٌ من الكاف على الوجه الأولِ من القراءة المشهورة ومن الفاعل على الوجه الثاني منها، وضمير تريد للعينين وإسنادُ الإرادةِ إليه مجازٌ وتوحيدُه للتلازم كما في قوله:
لمن زُحْلوفةٌ زُل ** بها العينان تنهلُّ

ومن المستكنّ في الفعل على القراءتين الأخيرتين {وَلاَ تُطِعِ} في تنحية الفقراءِ عن مجالسك {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} أي جعلناه غافلاً لبطلان استعدادِه للذكر بالمرة أو وجدناه غافلاً، كقولك: أجبَنْتُه وأبخلتُه إذا وجدتُه كذلك أو هو مِنْ أَغفلَ إبِلَه أي لم نسمِّه بالذكر {عَن ذِكْرِنَا} كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراءِ عن مجلسك فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقاتِ، وفيه تنبيهٌ على أن الباعثَ له على ذلك الدعاءِ غفلةُ قلبه عن جناب الله سبحانه وجهته وانهماكُه في الحسيات حتى خفيَ عليه أن الشرفَ بحِلْية النفس لا بزينة الجسد، وقرئ: {أغفلَنا قلبُه}، على إسناد الفعل إلى القلب أي حسِبَنا غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة، من أغفلتُه إذا وجدتُه غافلاً {واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ضيَاعاً وهلاكاً أو متقدماً للحق والصواب نابذاً له وراءَ ظهره، من قولهم: فرسٌ فرُطٌ أي متقدِّمٌ للخيل أو هو بمعنى الإفراط والتفريطِ فإن الغفلةَ عن ذكره سبحانه تؤدّي إلى اتباع الهوى المؤدِّي إلى التجاوز والتباعُدِ عن الحق والصواب، والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة.

.تفسير الآية رقم (29):

{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}
{وَقُلْ} لأولئك الغافلين المتبعين هواهم {الحق مِن رَّبّكُمْ} أي ما أوحيَ إليَّ الحقُّ لا غيرُ كائناً من ربكم أو الحقُّ المعهودُ من جهة ربكم لا من جهتي حتى يُتصور فيه التبديلُ أو يُمكنَ الترددُ في اتباعه وقوله تعالى: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} إما من تمام القولِ المأمورِ به والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد لا لتفريعه عليه كما في قوله تعالى: {هذا عَطَاؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقوله تعالى: {الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي عَقيبَ تحقق أن ما أوحي إليَّ حقٌّ لا ريب فيه وأن ذلك الحقَّ من جهة ربكم فمن شاء أن يؤمنَ كسائر المؤمنين ولا يتعللَ بما لا يكاد يصلُح للتعلل ومن شاء أن يكفرَ به فليفعلْ، وفيه من التهديد وإظهارِ الاستغناءِ عن متابعتهم وعدمِ المبالاةِ بهم وبإيمانهم وجوداً وعدماً ما لا يخفى، وإما تهديدٌ من جهة الله تعالى والفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر لا على مضمون المأمورِ به، والمعنى قل لهم ذلك، وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدِّقَك فيه فليؤمن ومن شاء أن يكفُر به أو يكذِّبَك فيه فليفعل، فقوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} وعيدٌ شديدٌ وتأكيدٌ للتهديد وتعليلٌ لما يفيده من الزجر عن الكفر أو لما يُفْهم من ظاهر التخييرِ من عدم المبالاةِ بكفرهم وقلةِ الاهتمامِ بزجرهم عنه، فإن إعدادَ جزائِه من دواعي الإملاءِ والأمهالِ، وعلى الوجه الأول هو تعليلٌ للأمر بما ذكر من التخيير التهديديِّ أي قل لهم ذلك إنا أعتدنا {للظالمين} أي هيأنا للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبيرُ عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئةَ الكفر واختيارَه تجاوزٌ عن الحد ووضعٌ للشيء في غير موضعه {نَارًا} عظيمةً عجيبة {أَحَاطَ بِهِمْ} أي يحيط بهم، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدِلالة على التحقق {سُرَادِقُهَا} أي فُسطاسُها شُبّه به ما يحيط بهم من النار، وقيل: السرادِقُ الحجرةُ التي تكون حول الفُسطاطِ، وقيل: سرادِقُها دُخانُها، وقيل: حائط من نار {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} من العطش {يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل} كالحديد المذاب، وقيل: كدُرْدِيِّ الزيت وهو على طريقة قوله: فاعتُبوا بالصَّيْلم {يَشْوِى الوجوه} إذا قدم ليُشرَب انشوى الوجهُ لحرارته. عن النبي عليه الصلاة والسلام: «هو كعَكَر الزيت فإذا قُرب إليه سقطت فروةُ وجهه» {بِئْسَ الشراب} ذلك {وَسَاءتْ} النار {مُرْتَفَقًا} متكأً، وأصل الارتفاقِ نصبُ المِرْفقِ تحت الخد وأنى ذلك في النار، وإنما هو بمقابلة قوله تعالى: {حَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}

.تفسير الآيات (30- 31):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ} في محل التعليلِ للحث على الإيمان المنفهِم من التخيير، كأنه قيل: وللذين آمنوا، ولعل تغييرَ سبكه للإيذان بكمال تنافي مآليْ الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحيَ إليك {وَعَمِلُواْ الصالحات} حسبما بين في تضاعيفه {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} خبرُ إن الأولى هي الثانيةُ مع ما في حيزها والراجعُ محذوفٌ أي من أحسنَ منهم عملاً أو مستغنًى عنه كما في قولك: نعم الرجلُ زيدٌ أو واقعٌ موقعَه الظاهرَ فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذي آمن وعمِل الصالحات.
{أولئك} المنعوتون بالنعوت الجليلة {لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} استئنافٌ لبيان الأجر، أو هو الخبرُ وما بينهما اعتراضٌ أو هو خبرٌ بعد خبر {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} من الأولى ابتدائيةٌ والثانيةُ صفةٌ لأساور والتنكيرُ للتفخيم وهو جمعُ أَسوِرة أو إسْوار جمع سِوار {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} خُصت الخُضرة بثيابهم لأنها أحسنُ الألوان وأكثرُها طراوة {مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} أي مما رقّ من الديباج وغلُظ، جمعَ بين النوعين للدِلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفسُ وتلَذّ الأعين {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك} على السرُر على ما هو شأن المتنعمين {نِعْمَ الثواب} ذلك {وَحَسُنَتْ} أي الأرائك {مُرْتَفَقًا} أي متكأ.

.تفسير الآيات (32- 34):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)}
{واضرب لَهُم} أي للفريقين الكافر والمؤمن {مَثَلاً رَّجُلَيْنِ} مفعولان لاضربْ أولُهما ثانيهما لأنه المحتاجُ إلى التفصيل والبيان أي اضرب للكافرين والمؤمنين لا من حيث أحوالُهما المستفادةُ مما ذكر آنفاً من أن للأولين في الآخرة كذا بل من حيث عصيانُ الأولين مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعةِ الآخرين مع مكابدتهم مشاقَّ الفقر مثلاً حالَ رجلين مقدرَين أو محققَين هما أخوان من بني إسرائيلَ أو شريكان: كافرٌ اسمُه قطروس ومؤمنٌ اسمه يهوذا اقتسما ثمانيةَ آلافِ دينار فاشترى الكافرُ بنصيبه ضِياعاً وعَقاراً وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه المبارِّ فآل أمرُهما إلى ما حكاه الله تعالى، وقيل: هما أخوان من بني مخزومٍ كافرٌ هو الأسودُ بن عبد اللَّه بن عبد الأسد زوجُ أم سلمة رضي الله عنها أولاً {جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا} وهو الكافر {جَنَّتَيْنِ} بساتين {مّنْ أعناب} من كروم متنوعة والجملة بتمامها بيانٌ للتمثيل أو صفةٌ لرجلين {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي جعلنا النخل محيطةً بهما مؤزَّراً بها كرومُهما، يقال: حفّه القومُ إذا طافوا به وحففتُه بهم جعلتُهم حافّين حوله فيزيده الباء مفعولاً آخر كقولك: غشَّيتُه به {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} وسطهما {زَرْعًا} ليكون كلٌّ منهما جامعاً للأقوات والفواكهِ متواصلَ العِمارة على الهيئة الرائقةِ والوضعِ الأنيق.
{كِلْتَا الجنتين اتَتْ أُكُلَهَا} ثمرَها وبلغت مبلغاً صالحاً للأكل، وقرئ بسكون الكاف، وقرئ: {كلُّ الجنتين آتى أكُلَه} {وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ} لم تنقُص من أُكُلها {شَيْئاً} كما يعهد ذلك في سائر البساتينِ فإن الثمارَ غالباً تكثُر في عام وتقِلُّ في آخر، وكذا بعضُ الأشجارِ يأتي بالثمر في بعض الأعوامِ دون بعض {وَفَجَّرْنَا خلالهما} فيما بين كلَ من الجنتين {نَهَراً} على حِدَة ليدوم شربُهما ويزيد بهاؤهما، وقرئ بالتخفيف ولعل تأخير ذكر تفجيرِ النهر عن ذكر إيتاءِ الأكلِ مع أن الترتيب الخارجيَّ على العكس للإيذان باستقلال كلَ من إيتاء الأكل وتفجيرِ النهر في تكميل محاسنِ الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها، ولو عُكس لانفهم أن المجموعَ خَصلةٌ واحدة بعضُها مترتبٌ على بعض فإن إيتاءَ الأكلِ متفرِّعٌ على السقْي عادةً، وفيه إيماءٌ إلى أن إيتاء الأكلِ لا يتوقف على السقى كقوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} {وَكَانَ لَهُ} لصاحب الجنتين {ثَمَرٌ} أنواعٌ من المال غيرُ الجنتين، من ثمر مالَه إذا كثّره، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو جميعُ المال من الذهب والفضة والحيوانِ وغير ذلك، وقال مجاهد: هو الذهبُ والفضة خاصة {فَقَالَ لصاحبه} المؤمن {وَهُوَ} أي القائلُ {يحاوره} أي صاحبَه المؤمنَ وإن جاز العكسُ أي يراجعه في الكلام من حار إذا رجع {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} حشَماً وأعواناً أو أولاداً ذُكوراً لأنهم الذين ينفِرون معه.

.تفسير الآيات (35- 38):

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)}
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} التي شُرحت أحوالُها وعَدَدُها وصفاتُها وهيآتُها، وتوحيدها إما لعدم تعلق الغرَضِ بتعددها، وإما لاتصال إحداهما بالأخرى، وإما لأن الدخولَ يكون في واحدة فواحدة {وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} ضارٌّ لها بعُجبه وكفره {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من ذكر دخولِ جنته حالَ ظلمِه لنفسه، كأنه قيل: فماذا قال إذ ذاك؟ فقيل قال: {مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه} الجنةُ أي تفنى {أَبَدًا} لطول أملِه وتمادي غفلتِه واغترارِه بمُهلته، ولعله إنما قاله بمقابلة موعظةِ صاحبِه وتذكيرِه بفناء جنّتيه ونهيِه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الباقيات الصالحات.
{وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} كائنةً فيما سيأتي {وَلَئِن رُّدِدتُّ} بالبعث عند قيامها كما تقول {إلى رَبّى لاجِدَنَّ} يومئذ {خَيْراً مّنْهَا} أي من هذه الجنةِ، وقرئ: {منهما} أي من الجنتين {مُنْقَلَباً} مرجعاً وعاقبةً، ومدارُ هذا الطمعِ واليمينِ الفاجرةِ اعتقادٌ أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامتِه عليه سبحانه ولم يدرِ أن ذلك استدراجٌ.
{قَالَ لَهُ صاحبه} استئناف كما سيق {وَهُوَ يحاوره} جملةٌ حاليةٌ كما مر فائدتُها التنبيهُ من أول الأمرِ على أن ما يتلوه كلامٌ معتنًى بشأنه مسوقٌ للمحاورة {أَكَفَرْتَ} حيث قلت: ما أظن الساعةَ قائمةً {بالذى خَلَقَكَ} أي في ضمن خلقِ أصلِك {مّن تُرَابٍ} فإن خلْقَ آدمَ عليه السلام منه متضمّنٌ لخلقه منه لِما أن خلقَ كل فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرتُه الشريفةُ مقصورةً على نفسه، بل كانت أُنموذجاً منطوياً على فطرة سائرِ أفرادِ الجنسِ انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجريان آثارِها على الكل، فكان خلْقُه عليه السلام من التراب خَلْقاً للكل منه، وقيل: خلقَك منه لأنه أصلُ مادتِك إذ به يحصُل الغذاءُ الذي منه تحصل النطفةُ فتدبر {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} هي مادتُك القريبة فالمخلوقُ واحدٌ والمبدأُ متعددٌ {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي عَدلك وكمّلك إنساناً ذكراً أو صيّرك رجلاً، والتعبيرُ عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية ما حيز الصلة لإنكار الكفرِ والتلويحِ بدليل البعثِ الذي نطق به قولُه عز من قائل: {السعير ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ} الخ.
{لَكُنَّا هُوَ الله رَبّى} أصله {لكنْ أنا} وقد قرئ كذلك فحُذفت الهمزةُ فتلاقت النونان فكان الإدغامُ، و(هو) ضميرُ الشأن وهو مبتدأٌ خبرُه الله ربي وتلك الجملةُ خبرُ أنا والعائدُ منها إليه الضميرُ، وقرئ بإثبات ألفِ أنا في الوصل والوقف جميعاً وفي الوقف خاصة، وقرئ: {لكنه} بالهاء ولكن بطرح أنا ولكن أنا لا إله إلا هو ربي، ومدارُ الاستدراك قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ} كأنه قال: أنت كافرٌ لكني مؤمنٌ موحّد {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} فيه إيذانٌ بأن كفرَه كان بطريق الإشراك.